منذ المرة الأولى التي قرأتُ فيها عن هذا المثال، شعرتُ بالتقزز الشديد: القصة عن شيخ سأله رجل غير مسلم: "لماذا تُحجّبون نساءكم؟"؛ فسأله: "لو أن أمامك قطعتيّ حلوى؛ إحداهما مغلّفة والأخرى مكشوفة؛ أيّهما ستختار؟"؛ فأجابه: "المغلّفة بالطبع فهي أنظف"؛ فقال الشيخ: "وهكذا المرأة المحجبة".
مع احترامي للجميع، لكن هذا المثال هو فضلا عن كونه شديد السطحية والطفولية؛ فهو كذلك مهين للمرأة ومختصر لها في مجرّد "جسد هدفه تحقيق متعة حسيّة".. هذا إضافة لمسألة "نحجب نساءنا" هذه، كما لو أن ارتداء المرأة للحجاب هو أمر قسري تنفّذه بالقوة الجبرية، وليس أمرا تعبّديا يخضع لإرادتها ويرتبط بعلاقتها الخاصة بالله -الذي يتولّى بنفسه محاسبتها وليس أحدا غيره- كالصلاة وباقي العبادات، أو كما أن المظهر الخارجي للإنسان هو مقياس الحكم على سلوكياته وأخلاقياته.. صحيح أن "بعض" هذا المظهر قد يساعد في ذلك، ولكن ليس إلى حد وضع التصنيف المختل أن: "كل محجبة طاهرة عفيفة، وكل سافرة منحرفة فاسدة"، وإلا -واعذروا لي حدة ما سأقول- ما تفسير أن نرى فتاة محجبة في وضع فاضح في بعض مناطق الطريق العام، وأن نرى فتاة غير محجبة، لكنها ملتزمة أخلاقيا وسلوكيا، وتتعامل بشراسة مع مَن يُفكّر للحظة أن سفورها يعني أنها "سهلة" أو "رخيصة"؟
ثمّ إن فكرة "الحلوى" والصورة المنتشرة على مواقع الإنترنت لقطعتَي حلوى إحداهما مغلفة جيّدا والأخرى مكشوفة والذباب مجتمع عليها؛ هي إفساد متعمّد لنظرة الرجل للمرأة؛ بحيث يتمّ زرع الفكرة الفاسدة في تفكيره أن قيمتها في مجتمعه تساوي قيمة أي مصدر آخر للمتعة المرتبطة بحواس الجسد كالطعام والشراب، وإغفال مقصود لحقيقة أن جسد أي منّا -ذكرا كان أم أنثى- هو مجرّد غلاف خارجي لا يشكّل سوى النسبة شديدة الضآلة من مجموع شخصيته؛ فالإنسان السوي الطبيعي حين يتفاعل مع باقي البشر ويكوّن المشاعر تجاههم -سلبية كانت أو إيجابية- فإن الجزء الأكبر من ذلك يكون بناء على أمور معنوية؛ كأسلوب التعامل ومضمون الحديث وأخلاقيات المعاملة... إلخ.. ولو كانت المرأة مجرّد "بونبونة" لما كان الله قد خلق لها عقلا ولسانا وشخصية، وما كان ليأمرها وينهاها ويحاسبها، ولجعلها مجرّد غلاف خارجي جميل و-عفوا لقسوة التعبير- وعاء جنسي يصلح للمتعة والولادة فحسب!
ويخطر لي الآن خاطر مضحك نوعا ما: ماذا لو فتح أحدنا -معشر الرجال- موقع فيسبووك ليجد نفس صورة قطعتَي الحلوى -المغلفة والمكشوفة للذباب- وتحتها عبارة "أخي المسلم.. حجابك يصونك من الذباب كما يصون الغلاف قطعة الحلوة"؟ قد يقول البعض: "وماذا في وجه الرجل أو جسده ليجذب الذباب؟"، وهو سؤال ينمّ عن جهل بالمشاعر الإنسانية؛ حيث إن الله تعالى قد خلق في كل من الرجل والمرأة -من الناحية الجسدية- ما يجذب أحدهما للآخر؛ فلماذا نسمح للرجل أن يختصرها في "قطعة حلوى" ولا نعطيها نفس الحق؟
بالمناسبة.. أنا هنا لا أتحدّث في مسألة كون الحجاب فرضا أم لا، وما شكل الحجاب أصلا؛ فأنا لستُ من أهل الفتوى لأخوض في هكذا حديث، ولكني أتحدّث عن المثال نفسه.. أقول هذا حتى لا يسيء البعض -وهم كثيرون مع الأسف- فهم قصدي.
السؤال الآن: لو أن الشيخ -أو الرجل المتدين- يريد أن يفسّر مسألة الحجاب لغير المسلم؛ فلماذا لا يستخدم أمثلة أكثر عمقا؟ لماذا لا يقول للمسيحي: "أنتم ترسمون السيدة العذراء عليها السلام محجبة؛ لأنكم تجعلونها في مكانة خاصة، ونساؤنا يعتبرن أنهن جميعا في مكانة خاصة"، ولليهوديك "نساؤكم يرتدين الحجاب في المعبد؛ لأنه مكان للصلاة، ونحن نساؤنا يعتبرن أن كل الأرض معبد ومسجد للإنسان".. وحتى لو لم يجد مثالا لماذا يكون من الأساس على مَن يعتنق دينا -أي دين- أن يبرّر بعض أموره الشكلية؟ أليس لكل دين خصوصياته؟ لماذا يمتنع إخواننا المسيحيون خلال فترة صيامهم عن أكل ما مصدره روح من الأطعمة كاللحم واللبن والسمن؟ لماذا يمتنع اليهود عن العمل مِن مساء الجمعة لمساء السبت؟ لماذا يرسم الهندوس نقطة حمراء على جبهة المتزوجة منهم؟ لماذا يصوّر البوذيون بوذا أحيانا في شكل فيل؟ لو سألت صاحب أي مِن تلك الأديان عن هذه الأمور لحاول تفسيرها لك، ولكنه ليس ملزما أن يجعلك تقتنع بالتفسير؛ ففي النهاية أهل كل دين أحرار في معتقداتهم.
على أي حال؛ فالمثال لا يعكس فقط سطحية التفكير في تلك المسألة ولا -عفوا- النزعة الحيوانية أو الشهوانية لدى البعض في التعامل مع المرأة وما يخصّها من مسائل، وإنما يعكس أيضا حالة غريبة من "التحفّز" للآخر انتشرت لدى فئة ضخمة ممن يُحاولون أن يكونوا متديّنين؛ فدائما ترتبط لديهم المناقشات بين المسلم وغير المسلم بالرغبة الدفينة في "إحراج وإفحام وإسكات" غير المسلم، وكأن النقاش في أمور الأديان غرضه ذلك، وليس بغرض الوصول لهدف التعايش الإنساني الراقي بين الجميع.
ولكن.. كيف نحدّث أمثال هؤلاء عن التعايش السوي مع الآخر غير المسلم، ونقاشهم معه يعكس عجزهم عن التعايش السوي مع الآخر المسلم؛ سواء أكان امرأة أو -كيف تجرؤ- امرأة سافرة؟!